فصل: تفسير الآية رقم (50)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر‏}‏ عطف على ما قبل، والفرق الفصل بين الشيئين، وتعديته إلى البحر بتضمين معنى الشق، أي فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض لأجلكم، وبسبب إنجائكم‏.‏ والباء للسببية الباعثة بمنزلة اللام إذا قلنا بتعليل أفعاله تعالى وللسببية الشبيهة بها في الترتيب على الفعل، وكونه مقصوداً منه إن لم نقل به وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏بِكُمْ‏}‏ دون لكم، لأن العرب على ما نقله الدامغاني تقول‏:‏ غضبت لزيد إذا غضبت من أجله وهو حي وغضبت بزيد إذا غضبت من أجله وهو ميت ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين، ويحتمل أن تكون للاستعانة على معنى بسلوككم ويكون هناك استعارة تبعية بأن يشبه سلوكهم بالآلة في كونه واسطة في حصول الفرق من الله تعالى، ويستعمل الباء‏.‏ وقول الإمام الرازي قدس سره‏:‏ إنهم كانوا يسلكون، ويتفرق الماء عند سلوكهم، فكأنه فرق بهم يرد عليه أن تفرق الماء كان سابقاً على سلوكهم على ما تدل عليه القصة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 36‏]‏ وما قيل‏:‏ إن الآلة هي العصا كما تفهمه الآية غير مسلم‏.‏ والمفهوم كونها آلة الضرب لا الفرق ولو سلم يجوز كون المجموع آلة، على أن آلية السلوك على التجوز، وقد يقال‏:‏ إن الباء للملابسة، والجار والمجرور ظرف مستقر واقع موقع الحال من الفاعل، وملابسته تعالى معهم حين الفرق ملابسة عقلية، وهو كونه ناصراً وحافظاً لهم، وهي ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 2 6‏]‏ ومن الناس من جعله حالاً من البحر مقدماً وليس بشيء لأن الفرق مقدم على ملابستهم البحر اللهم إلا على التوسع، واختلفوا في هذا البحر فقيل‏:‏ القلزم وكان بين طرفيه أربعة فراسخ وقيل‏:‏ النيل، والعرب تسمي الماء الملح والعذب بحراً إذا كثر، ومنه‏:‏ ‏{‏مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 9 1‏]‏ وأصله السعة، وقيل‏:‏ الشق، ومن الأول‏:‏ البحرة البلدة، ومن الثاني‏:‏ البحيرة التي شقت أذنها، وفي كيفية الانفلاق قولان‏:‏ فالمشهور كونه خطياً، وفي بعض الآثار ما يقتضي كونه قوسياً، إذ فيه أن الخروج من الجانب الذي دخلوا منه، واحتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلاً لأن الأعداء في أثرهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يتعلق بهذا المبحث‏.‏

‏{‏فأنجيناكم وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ‏}‏ في الكلام حذف يدل عليه المعنى والتقدير‏:‏ وإذا فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم أي من الغرق، أو من إدراك فرعون وآله لكم، أو مما تكرهون، وكنى سبحانه بآل فرعون عن فرعون وآله كما يقال‏:‏ بني هاشم؛ وقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 0 7‏]‏ يعني هذا الجنس الشامل لآدم، أو اقتصر على ذكر الآل لأنهم إذا عذبوا بالإغراق كان مبدأ العناد ورأس الضلال أولى بذلك، وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر من كتابه كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 103‏]‏ ‏{‏فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 0 4‏]‏ وحمل الآل على الشخص حيث إنه ثبت لغة كما في «الصحاح» ركيك غير مناسب للمقام، وإنما المناسب له التعميم، وناسب نجاتهم بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام من الذبح بإلقائه وهو طفل في البحر وخروجه منه سالماً، ولكل أمة نصيب من نبيها وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح لأن الذبح فيه تعجيل الموت بإنهار الدم، والغرق فيه فيه إبطاء الموت ولا دم خارج وكان ما به الحياة وهو الماء كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 0 3‏]‏ سبباً لإعدامهم من الوجود، وفيه إشارة إلى تقنيطهم وانعكاس آمالهم كما قيل‏:‏

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة *** ‏(‏إلى أين‏)‏ يسعى من يغص بماء

ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة ولهذا كان الغريق المسلم شهيداً جعله الله تعالى نكالاً لمن ادعى الربوبية وقال‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى‏}‏ ‏[‏النازعلات‏:‏ 4 2‏]‏ وعلى قدر الذنب يكون العقاب‏.‏ ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدعي وتغييبه في قعر الماء، ولك أن تقول لما افتخر فرعون بالماء كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وهذه الانهار تَجْرِى مِن تَحْتِى‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 1 5‏]‏ جعل الله تعالى هلاكه بالماء، وللتابع حظ وافر من المتبوع وكان ذلك الغرق والإنجاء، والإغراق يوم عاشوراء والكلام فيه مشهور‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ جملة حالية وفيها تجوز أي وآباؤكم ينظرون، والمفعول محذوف أي جميع ما مر فإن أريد الأحكام فالنظر بمعنى العلم وعليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه وإن نفس الأفعال من الغرق والإنجاء‏.‏ والإغراق فهو بمعنى المشاهدة وعليه الجمهور والحال على هذا من الفاعل وهو معمول بجميع الأفعال السابقة على التنازع، وفائدته‏:‏ تقرير النعمة عليهم كأنه قيل‏:‏ وأنتم لا تشكون فيها، وجوز أن يقدر المفعول خاصاً أي غرقهم، وإطباق البحر عليهم فالحال متعلق بالقريب، وهو ‏{‏أَغْرَقْنَا‏}‏ وفائدته‏:‏ تتميم النعمة فإن هلاك العدو نعمة؛ ومشاهدته نعمة أخرى، وفي «قصص الكسائي» أن بني إسرائيل حين عبروا البحر وقفوا ينظرون إلى البحر وجنود فرعون، ويتأملون كيف يفعلون، أو انفلاق البحر فيكون الحال متعلقاً بالأصل في الذكر، وهو ‏{‏فَرَقْنَا‏}‏ وفائدته‏:‏ إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها، ويتعرفوا إعجازها، أو ذلك الآل الغريق فالحال من مفعول ‏{‏أَغْرَقْنَا‏}‏ متعلق به والفائدة‏:‏ تحقيق الإغراق وتثبيته، وقيل‏:‏ المراد ينظر بعضكم بعضاً وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له‏:‏ أي أصحابنا‏؟‏ فقال‏:‏ سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم‏.‏

قالوا‏:‏ لا نرضى حتى نراهم فأوحى الله تعالى أن قل بعصاك هكذا فقال بها على الحيطان فصار بها كوى فتراأوا وسمعوا كلام بعضهم بعضاً فالحال متعلق بفرقنا وفائدته‏:‏ تتميم النعمة فإن كونهم مستأنسين يرى بعضهم حال بعض آخر نعمة أخرى، وبعض الناس يجعل الفعل على هذا الوجه منزلاً منزلة اللازم وليس بالبعيد، نعم البعيد جعل النظر هنا مجازاً عن القرب أي وأنتم بالقرب منهم أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم أنت مني بمرأى ومسمع أي قريب مني بحيث أراك وأسمعك، وكذا جعله بمعنى الاعتبار أي وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت عليهم‏.‏ هذا وقد حكوا في كيفية خروج بني إسرائيل وتعنتهم وهم في البحر، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، وفي مقدار الطائفتين حكايات مطولة جداً لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها والله تعالى أعلم بشأنها‏.‏

والإشارة‏:‏ في الآية أن البحر هو الدنيا وماءه شهواتها ولذاتها، وموسى هو القلب، وقومه صفات القلب، وفرعون هو النفس الأمارة، وقومه صفات النفس، وهم أعداء موسى، وقومه يطلبونهم ليقتلوهم، وهم سائرون إلى الله تعالى، والعدو من خلفهم، وبحر الدنيا أمامهم، ولا بد لهم في السير إلى الله تعالى من عبوره ولو يخوضونه بلا ضرب عصا لا إله إلا الله بيد موسى القلب فإن له يداً بيضاء في هذا الشأن لغرقوا كما غرق فرعون وقومه، ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم ينفلق فكما أن يد موسى القلب شرط في الانفلاق كذلك عصا الذكر شرط فيه، فإذا حصل الشرطان، وضرب موسى بعصا الذكر مرة بعد أخرى ينفلق بإذن الله بحر الدنيا بالنفي وينشبك ماء الشهوات يميناً وشمالاً، ويرسل الله تعالى ريح العناية، وشمس الهداية على قعر ذلك البحر فيصير يابساً من ماء الشهوات فيخرج موسى وقومه بعناية التوحيد إلى ساحل النجاة ‏{‏وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 2 4‏]‏ ويقال لفرعون وقومه إذا غرقوا وأدخلوا ناراً‏:‏ ألا بعداً للقوم الظالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ لما جاوز بنو إسرائيل البحر سألوا موسى عليه السلام أن يأتيهم بكتاب من عند الله فوعده سبحانه أن يعطيه التوراة وقبل موسى ذلك، وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة أو ذا الحجة وعشر المحرم فالمفاعلة على بابها، وهي من طرف فعل، ومن آخر قبوله مثل عالجت المريض وإنكار جواز ذلك لا يسمع مع وروده في كلام العرب وتصريح الأئمة به وارتضائهم له، ويجوز أن يكون ‏{‏واعدنا‏}‏ من باب الموافاة وليس من الوعد في شيء وإنما هو من قولك موعدك يوم كذا وموضع كذا، ويحتمل أن يكون بمعنى وعدنا وبه قرأ أبو عمرو، أو يقدر الملاقاة، أو يقال بالتفكيك إلى فعلين فيقدر الوحي في أحدهما؛ والمجىء في الآخر ولا محذور في شيء كما حققه الدامغاني، وقول أبي عبيدة‏:‏ المواعدة لا تكون إلا من البشر غير مسلم، وقول أبي حاتم‏:‏ أكثر ما تكون من المخلوقين المتكافئين على تقدير تسليمه لا يضرنا، و‏(‏ أربعين‏)‏ مفعول به بحذف المضاف بأدنى ملابسة أي إعطاء أربعين أي عند انقضائها، أو في العشر الأخير منها، أو في كلها، أو في أولها على اختلاف الروايات، أو ظرف مستقر وقع صفة لمفعول محذوف لواعدنا أي واعدنا موسى أمراً كائناً في أربعين، وقيل‏:‏ مفعول مطلق أي واعدنا موسى مواعدة أربعين ليلة‏.‏

ومن الناس من ذهب إلى أن الأولى أن لا يقدر مفعول لأن المقصود بيان من وعد لا ما وعد وينصب الأربعين على الإجراء مجرى المفعول به توسعاً، وفيه مبالغة بجعل ميقات الوعد موعوداً وجعل الأربعين ظرفاً لواعدنا على حد جاء زيد يوم الخميس ليس بشيء كما لا يخفى، و‏(‏ موسى‏)‏ اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة، ويقال‏:‏ هو مركب من ‏(‏مو‏)‏ وهو الماء ‏(‏وشى‏)‏ وهو الشجر وغُيّرَ إلى ‏(‏سى‏)‏ بالمهملة وكأن من سماه به أراد ماء البحر والتابوت الذي قذف فيه وخاض بعضهم في وزنه فعن سيبويه إن وزنه مفعل وقيل‏:‏ إنه فعل وهو مشتق من ماس يميس فأبدلت الياء واواً لضم ما قبلها كما قالوا طوبى، وهي من ذوات الياء لأنها من طاب يطيب، ويبعده أن الإجماع على صرفه نكرة ولو كان فعل لم ينصرف لأن ألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة على أن زيادة الميم أولاً أكثر من زيادة الألف آخراً، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك الوقت بالليالي دون الأيام لأن افتتاح الميقات كان من الليل، والليالي غرر شهور العرب لأنها وضعت على سير القمر، والهلال إنما يهل بالليل، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل

‏{‏وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 37‏]‏ أو إشارة إلى مواصلة الصوم ليلاً ونهاراً ولو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي فهم من قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها، والقول بأن ذكر الليلة كان للإشعار بأن وعد موسى عليه السلام كان بقيام الليل ليس بشيء لأن المروي أن المأمور به كان الصيام لا القيام، وقد يقال من طريق الإشارة‏:‏ إن ذكر الليلة للرمز إلى أن هذه المواعدة كانت بعد تمام السير إلى الله تعالى ومجاوزة بحر العوائق والعلائق، وهناك يكون السير في الله تعالى الذي لا تدرك حقيقته، ولا تعلم هويته، ولا يرى في بيداء جبروته إلا الدهشة والحيرة، وهذا السير متفاوت باعتبار الأشخاص والأزمان ولي مع الله تعالى وقت يشير إلى ذلك‏.‏

‏{‏ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظالمون‏}‏ الاتخاذ يجيء بمعنى ابتداءً صنعة فيتعدى لواحد نحو اتخذت سيفاً أي صنعته‏.‏ وبمعنى اتخاذ وصف فيجري مجرى الجعل ويتعدى لاثنين نحو اتخذت زيداً صديقاً والأمران محتملان في الآية، والمفعول الثاني على الاحتمال الثاني محذوف لشناعته أي‏:‏ اتخذتم العجل الذي صنعه السامري إلهاً، والذمّ فيه ظاهر لأنهم كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفاً، أو إلا هارون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام، وعلى الاحتمال الأول لا حاجة إلى المفعول الثاني ويؤيده عدم التصريح به في موضع من آيات هذه القصة، والذمّ حينئذٍ لما ترتب على الاتخاذ من العبادة أو على نفس الاتخاذ لذلك، والعرب تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها، والعجل ولد البقرة الصغير وجعله الصوفية إشارة إلى عجل النفس الناقصة وشهواتها وكون ما اتخذوه عجلاً ظاهر في أنه صار لحماً ودماً فيكون عجلاً حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه فيما يأتي حقيقة أيضاً وهو الذي ذهب إليه الحسن، وقيل‏:‏ أراد سبحانه بالعجل ما يشبهه في الصورة والشكل‏.‏ ونسبة الخوار إليه مجاز وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك‏.‏

ومن الغريب أن هذا إنما سمي عجلاً لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى فاتخذوه إلهاً، أو لقصر مدته حيث إن موسى عليه السلام بعد الرجوع من الميقات حرقه ونسفه في اليم نسفاً، والضمير في بعده راجع إلى موسى، أي‏:‏ بعد ما رأيتم منه من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه، وذكر الظرف للإيذان بمزيد شناعة فعلهم، ولا يقتضي أن يكون موسى متخذاً إلهاً كما وهمَ لأن مفهوم الكلام أن يكون الاتخاذ بعد موسى ومن أين يفهم اتخاذ موسى سيما في هذا المقام‏؟‏ ويجوز أن يكون في الكلام حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه ‏{‏واعدنا‏}‏ أي من بعد مواعدته؛ وقيل‏:‏ المحذوف الذهاب المدلول عليه بالمواعدة لأنها تقتضيه‏.‏

والجملة الاسمية في موضع الحال، ومتعلق الظلم الإشراك، ووضع العبادة في غير موضعها، وقيل‏:‏ الكف عن الاعتراض على ما فعل السامري وعدم الإنكار عليه وفائدة التقييد بالحال الإشعار بكون الاتخاذ ظلماً بزعمهم أيضاً لو راجعوا عقولهم بأدنى تأمل، وقيل‏:‏ الجملة غير حال بل مجرد إخبار أن سجيتهم الظلم وإنما راج فعل السامري عندهم لغاية حمقهم وتسلط الشيطان عليهم كما يدل على ذلك سائر أفعالهم واتخاذ السامري لهم العجل دون سائر الحيوانات، قيل‏:‏ لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم على صور البقر فقالوا‏:‏ ‏{‏اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ فهجس في نفس السامري أن فتنتهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان هو من قوم يعبدون البقر وكان منافقاً فاتخذ عجلاً من جنس ما يعبده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏(‏ ثم‏)‏ لتفاوت ما بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم، فلا يكون ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ تكراراً‏.‏ و‏(‏ عفا‏)‏ بمعنى درس يتعدى ولا يتعدى كعفت الدار، وعفاها الريح والمراد بالعفو هنا محو الجريمة بالتوبة وذلك موضوع موضع ‏(‏ذلكم‏)‏ والإشارة للاتخاذ كما هو الظاهر، وإيثارها لكمال العناية بتمييزه كأنه يجعل ظلمهم مشاهداً لهم وصيغة البعيد مع قربه لتعظيمه ليتوسل بذلك إلى جلالة قدر العفو والمراد بالترجي ما علمت، والمشهور هنا كونه مجازاً عن طلب الشكر على العفو ومن قدر الإرادة من أهل السنة أراد مطلق الطلب وليس ذلك من الاعتزال، إذ لا نزاع في أن الله تعالى قد يطلب من العباد ما لا يقع والشكر عند الجنيد هو العجز عن الشكر، وعند الشبلي التواضع تحت رؤية المنة وقال ذو النون‏:‏ الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافآت، ولمن دونك بالإحسان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏(‏ الكتاب‏)‏ التوراة بإجماع المفسرين في الفرقان أقوال‏:‏ الأول‏:‏ إنه هو التوراة أيضاً، والعطف من قبيل عطف الصفات للإشارة إلى استقلال كل منها، فإن التوراة لها صفتان يقالان بالتشكيك، كونها كتاباً جامعاً لما لم يجمعه منزل سوى القرآن، وكونها ‏(‏فرقاناً‏)‏ أي حجة تفرق بين الحق والباطل قاله الزجاج ويؤيد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 8 4‏]‏ الثاني‏:‏ أنه الشرع الفارق بين الحلال والحرام، فالعطف مثله في‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الملائكة والروح‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏ قاله ابن بحر‏.‏ الثالث‏:‏ أنه المعجزات الفارقة بين الحق والباطل من العصا واليد وغيرهما قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ إنه النصر الذي فرق بين العدو والولي، وكان آية لموسى عليه السلام، ومنه قيل ليوم بدر‏:‏ يوم الفرقان، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل‏:‏ إنه القرآن، ومعنى إتيانه لموسى عليه السلام نزول ذكره له حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري وهو بعيد وأبعد منه، ما حكي عن الفراء وقطرب أنه القرآن والكلام على حذف مفعول أي ومحمداً الفرقان وناسب ذكر الاهتداء إثر ذكر إتيان موسى، الكتاب والفرقان لأنهما يترتب عليهما ذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل‏}‏ نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء، كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين، وإنما فصل بينهما بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ آتينا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3 5‏]‏ الخ؛ لأن المقصود تعداد النعم فلو اتصلا لصارا نعمة واحدة وقيل‏:‏ هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم وليس بشيء واللام في ‏{‏لِقَوْمِهِ‏}‏ للتبليغ، وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب موسى لقومه كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه كالخطابات المذكورة سابقاً لبني إسرائيل والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرىء وقياسه أن لا يجمع وشذ جمعه على أقاويم والمشهور اختصاصه بالرجال لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ‏}‏ مع قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ وقال زهير‏:‏

فما أدري وسوف أخال أدري *** أ ‏(‏قوم‏)‏ آل حصن أم ‏(‏نساء‏)‏

وقيل‏:‏ لا اختصاص له بهم، بل يطلق على النساء أيضاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 1‏]‏ والأول أصوب، واندراج النساء على سبيل الاستتباع، والتغليب والمجاز خير من الاشتراك، وسمي الرجال قوماً لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء، وفي إقبال موسى عليهم بالنداء، ونداؤه لهم بيا قوم إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه، وهزّ لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم والباء في ‏{‏باتخاذكم‏}‏ سببية وفي الاتخاذ هنا الاحتمالان السابقان هناك‏.‏

‏{‏فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ‏}‏ الفاء للسببية لأن الظلم سبب للتوبة وقد عطفت ما بعدها على ‏{‏إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ‏}‏ والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف بالواو وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معاً، والبارىء هو الذي خلق الخلق برياً من التفاوت وعدم تناسب الأعضاء وتلائم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة، والأخرى بخلافه؛ ومتميزاً بعضه عن بعض بالخواص والإشكال والحسن والقبح فهو أخص من الخالق وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي كبرء المريض أو الإنشاء كبرأ الله تعالى آدم أي خلقه ابتداءً متميزاً عن لوث الطين، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها وهو مثل في الغباوة والبلادة وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏بَارِئِكُمْ‏}‏ بالاختلاس، وروي عنه السكون أيضاً وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ‏.‏

‏{‏فاقتلوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ الفاء للتعقيب، والمتبادر من القتل القتل المعروف من إزهاق الروح وعليه جمع من المفسرين والفعل معطوف على سابقه، فإن كانت توبتهم هو القتل إما في حقهم خاصة، أو توبة المرتد مطلقاً في شريعة موسى عليه السلام، فالمراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتُوبُواْ‏}‏ اعزموا على التوبة ليصح العطف وإن كانت هي الندم والقتل من متمماتها كالخروج عن المظالم في شريعتنا فهو على معناه ولا إشكال، وقد يقال‏:‏ إن التوبة جعلت لهؤلاء عين القتل ولا حاجة إلى تأويل توبوا باعزموا، بل تجعل الفاء للتفسير كما تجعل الواو له وقد قيل به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم فِي اليم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 136‏]‏ وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً، فمعنى ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 9 2‏]‏ ‏{‏وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ والمؤمنون كنفس واحدة، وروي أنه أمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده، والمعنى عليه استسلموا أنفسكم للقتل، وسمى الاستسلام للقتل قتلاً على سبيل المجاز، والقاتل إما غير معين، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليه السلام، والذين كانوا مع موسى عليه السلام، وفي كيفية القتل أخبار لا نطيل بذكرها، وجملة القتلى سبعون ألفاً، وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم وقال‏:‏ لا يجوز ذلك عقلاً إذ الأمر لمصلحة المكلف وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقاً بأمره نستبقيها؛ وبأمره نفنيها وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو، حياة سرمدية وبهجة أبدية، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه، ووال في بلد يسوسه وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما، ومن الناس من جوّز ذلك إلا أنه استبعد وقوعه فقال‏:‏ معنى ‏{‏فاقتلوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ذللوا، ومن ذلك قوله‏:‏

إن التي عاطيتني فرددتها *** ‏(‏قتلت قتلت‏)‏ فهاتها لم ‏(‏تقتل‏)‏

ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيراً‏.‏ ونقل عن قتادة أنه قرأ‏:‏ ‏(‏فأقيلوا أنفسكم‏)‏ والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه، وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات‏.‏

‏{‏ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ‏}‏ جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة، والإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم، و‏{‏خَيْرٌ‏}‏ أفعل تفضيل حذفت همزته، ونطقوا بها في الشعر‏.‏ قال الراجز‏:‏

بلا خير الناس وابن الأخير *** وقد تأتي ولا تفضيل والمعنى‏:‏ أن ذلكم خير لكم من العصيان والإصرار على الذنب أو خير من ثمرة العصيان، وهو الهلاك الدائم، والكلام على حد العسل أحلى من الخل أو خير من الخيور كائن لكم‏.‏ والعندية هنا مجاز، وكرر البارىء بلفظ الظاهر اعتناءً بالحث على التسليم له في كل حال، وتلقى ما يرد من قبله بالقبول والامتثال فإنه كما رأى الإنشاء راجحاً فأنشأ رأي الإعدام راجحاً، فأمر به وهو العليم الحكيم‏.‏

‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ جواب شرط محذوف بتقدير قد إن كان من كلام موسى عليه السلام لهم، تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ومعطوف على محذوف إن كان خطاباً من الله تعالى لهم، كأنه قال‏:‏ ففعلتم ما أمرتم فتاب عليكم بارئكم وفيه التفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليه السلام بلفظ القوم وهو من قبيل الغيبة، أو من التكلم إلى الغيبة في ‏{‏فَتَابَ‏}‏ حيث لم يقل‏:‏ فتبنا، ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة والشرط وإبقاء الجواب، وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال، وظاهر الآية كونها إخباراً عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ جعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب عن الباقين وعفا عنهم، فمعنى ‏{‏علكيم‏}‏ عنده، على باقيكم‏.‏

‏{‏عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم‏}‏ تذييل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتُوبُواْ‏}‏ فإن التوبة بالقتل لما كانت شاقة على النفس هوّنها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها ويسهلها ويبالغ في الإنعام على من أتى بها، أو تذييل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ وتفسر التوبة منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين والتأكيد لسبق الملوح أو للاعتناء بمضمون الجملة، والضمير المنصوب إن كان ضمير الشأن فالضمير المرفوع مبتدأ وهو الأنسب لدلالته على كمال الإعتناء بمضمون الجملة، وإن كان راجعاً إلى البارىء سبحان فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ، هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه بمنزلة عجل بني إسرائيل فلا يتخذه إلهاً ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3 2‏]‏ وأن الله سبحانه قد خلق نفسه في أصل الفطرة مستعدة لقبول فيض الله تعالى والدين القويم، ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم، والترقي إلى جناب القدس وحضرة الأنس، وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب، والفرقان الذي يهتدى بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب، فمتى أخلدت النفس إلى الأرض واتبعت هواها، وآثرت شهواتها على مولاها، أمرت بقتلها بكسر شهواتها وقلع مشتهياتها ليصح لها البقاء بعد الفناء، والصحو بعد المحو، وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية، وهذا هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر‏.‏

ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء

وهذا صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق ورجال الصدق، وإليه الإشارة بموتوا قبل أن تموتوا‏.‏ وقيل أول قدم في العبودية إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات، وقطعها عن الملاذ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصديقين ومعارج المقربين هيهات هيهات ذاك بمعزل عنا، ومناط الثريا منا‏:‏

تعالوا نقم مأتما للهموم *** فإن الحزين يواسي الحزينا

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ‏}‏ القائل هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات التوراة، قيل‏:‏ قالوه بعد الرجوع، وقتل عبدة العجل، وتحريق عجلهم، ويفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه الله تعالى للاعتذار عن عبدة العجل وكانوا سبعين أيضاً، وقيل القائل عشرة آلاف من قومه، وقيل‏:‏ الضمير لسائر بني إسرائيل إلا من عصمه الله تعالى وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف ما ينفعك هنا واللام من ‏{‏لَكَ‏}‏ إما لام الأجل أو للتعدية بتضمين معنى الإقرار على أن موسى مقرّ له والمقر به محذوف، وهو أن الله تعالى أعطاه التوراة، أو أن الله تعالى كلمه فأمره ونهاه، وقد كان هؤلاء مؤمنين من قبل بموسى عليه السلام، إلا أنهم نفوا هذا الإيمان المعين والإقرار الخاص‏.‏ وقيل‏:‏ أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه» والقول إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلاً لم نره لأحد من أئمة التفسير‏.‏

‏{‏حتى نَرَى الله جَهْرَةً‏}‏ ‏{‏حتى‏}‏ هنا حرف غاية، والجهرة في الأصل مصدر جهرت بالقراءة إذا رفعت صوتك بها واستعيرت للمعاينة بجامع الظهور التام‏.‏ وقال الراغب‏:‏ الجهر يقال لظهور الشيء بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع أما البصر فنحو رأيته جهاراً وأما السمع فنحو ‏{‏وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 7‏]‏ وانتصابها على أنها مصدر مؤكد مزيل لاحتمال أن تكون الرؤية مناماً أو علماً بالقلب، وقيل‏:‏ على أنها حال على تقدير ذوي جهرة أو مجاهرين، فعلى الأول الجهرة من صفات الرؤية، وعلى الثاني من صفات الرائين، وثمّ قول ثالث، وهو أن تكون راجعة لمعنى القول أو القائلين فيكون المعنى وإذ قلتم كذا قولاً جهرة أو جاهرين بذلك القول مكترثين ولا مبالين، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي عبيدة، وقرأ سهل بن شعيب وغيره جهرة بفتح الهاء، وهي إما مصدر كالغلبة ومعناها معنى المسكنة وإعرابها إعرابها أو جمع جاهر أو كفاسق وفسقة، وانتصابها على الحال‏.‏

‏{‏فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة‏}‏ أي استولت عليكم وأحاطت بكم، وأصل الأخذ القبض باليد، والصاعقة هنا نار من السماء أحرقتهم أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا، أو صيحة سماوية خروا لها صعقين ميتين يوماً وليلة، واختلف في موسى هل أصابه ما أصابهم‏؟‏ والصحيح لا وأنه صعق ولم يمت لظاهر

‏{‏فلما أفاق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ في حقه، و‏{‏ثُمَّ بعثناكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 56‏]‏ الخ في حقهم، وقرأ عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما ‏(‏الصعقة‏)‏‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ جملة حالية ومتعلق النظر ما حل بهم من الصاعقة أو أثرها الباقي في أجسامهم بعد البعث، أو إحياء كل منهم كما وقع في قصة العزيز، قالوا‏:‏ أحيا عضواً بعد عضو‏:‏ والمعنى‏:‏ وأنتم تعلمون أنها تأخذكم، أو وأنتم يقابل بعضكم بعضاً، قال في «البحر»‏:‏ ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى‏:‏ وأنتم تنظرون إجابة السؤال في حصول الرؤية لكم كان وجهاً من قولهم‏:‏ نظرت الرجل أي انتظرته كما قال‏:‏

فإنكما إن ‏(‏تنظراني‏)‏ ساعة *** من الدهر تنفعني لدى أم جندب

لكن هذا الوجه غير منقول فلا أجسر على القول به، وإن كان اللفظ يحتمله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏}‏ بسبب الصاعقة، وكان ذلك بدعاء موسى عليه السلام ومناشدته ربه بعد أن أفاق، ففي بعض الآثار أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول‏:‏ يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله تعالى جميعاً رجلاً بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحييون، والموت هنا ظاهر في مفارقة الروح الجسد، وقيد البعث به لأنه قد يكون عن نوم كما هو في شأن أصحاب الكهف، وقد يكون بمعنى إرسال الشخص وهو في القرآن كثير ومن الناس من قال‏:‏ كان هذا الموت غشياناً وهموداً لا موتاً حقيقة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7 1‏]‏ ومنهم من حمل الموت على الجهل مجازاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏‏.‏ وقد شاع ذلك نثراً ونظماً، ومنه قوله‏:‏

أخو ‏(‏العلم حي‏)‏ خالد بعد موته *** وأوصاله تحت التراب رميم

وذو ‏(‏الجهل ميت‏)‏ وهو ماش على الثرى *** يظن من الأحياء وهو عديم

ومعنى البعث على هذا التعليم أي ثم علمناكم بعد جهلكم‏.‏

‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي نعمة الله تعالى عليكم بالإحياء بعد الموت أو نعمته سبحانه بعدما كفرتموها إذ رأيتم بأس الله تعالى في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت وتكليف من أعيد بعد الموت مما ذهب إليه جماعة لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد في هذه الدار بعد بعثة المرسلين، ومن جعل البعث بعد الموت مجازاً عن التعليم بعد الجهل جعل متعلق الشكر ذلك، وفي بعض الآثار أنه لما أحياهم الله تعالى سألوا أن يبعثهم أنبياء ففعل، فمتعلق الشكر حينئذ على ما قيل‏:‏ هذا البعث وهو بعيد، وأبعد منه جعل متعلقه إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعهم بعد أن لم يكن لهم شرائع‏.‏

وقد استدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على استحالة رؤية الباري سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها، والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما انضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها، ويجوز أيضاً أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء الله تعالى التوراة لموسى عليه السلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم، وقد يقال‏:‏ إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلماً فعوقبوا بما عوقبوا، وليس في ذلك دليل على امتناعها مطلقاً في الدنيا والآخرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المسألة بوجه لا غبار عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام‏}‏ عطف على ‏{‏بعثناكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 65‏]‏ وقيل‏:‏ على ‏{‏قُلْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55‏]‏ والأول أظهر للقرب والاشتراك في المسند إليه مع التناسب في المسندين في كون كل منهما نعمة بخلاف ‏{‏قُلْتُمْ‏}‏ فإنه تمهيد لها، وإفادته تأخير التظليل والإنزال عن واقعة طلبهم الرؤية، وعلى التقديرين لا بد لترك كلمة ‏{‏إِذْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55‏]‏ ههنا من نكتة، ولعلها الاكتفاء بالدلالة العقلية على كون كل منهما نعمة مستقلة مع التحرز عن تكرارها في ‏{‏ظللنا‏}‏ و‏{‏وَقَدْ أَنزَلْنَا‏}‏ والغمام اسم جنس كحامة وحمام وهو السحاب، وقيل‏:‏ ما ابيض منه، وقال مجاهد‏:‏ هو أبرد من السحاب وأرق، وسمي غماماً لأنه يغم وجه السماء ويستره ومنه الغم والغمم، وهل كان غماماً حقيقة أو شيئاً يشبههه وسمي به‏؟‏ قولان، والمشهور الأول وهو مفعول ‏{‏ظللنا‏}‏ على إسقاط حرف الجر كما تقول‏:‏ ظللت على فلان بالرداء أو بلا إسقاط، والمعنى جعلنا الغمام علكيم ظلة، والظاهر أن الخطاب لجميعهم فقد روي أنهم لما أمروا بقتال الجبارين وامتنعوا وقالوا‏:‏ ‏{‏فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 4 2‏]‏ ابتلاهم الله تعالى بالتيه بين الشام ومصر أربعين سنة وشكوا حر الشمس فلطف الله تعالى بهم بإظلال الغمام وإنزال المنّ والسلوى وقيل‏:‏ لما خرجوا من البحر وقعوا بأرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل فشكوا الحر فوقوا به، وقيل‏:‏ الذين ظللوا بالغمام بعض بني إسرائيل وكان الله تعالى قد أجرى العادة فيهم أن من عبد ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنباً أظلته الغمامة وكان فيهم جماعة يسمون أصحاب غمائم فامتن الله تعالى لكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة والنعمة الباهرة‏.‏

‏{‏وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى‏}‏ المنّ اسم جنس لا واحد له من لفظه والمشهور أنه الترنجبين وهو شيء يشبه الصمغ حلو مع شيء من الحموضة كان ينزل عليهم كالطل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم إلا يوم السبت وكان كل شخص مأموراً بأن يأخذ قدر صاع كل يوم أو ما يكفيه يوماً وليلة ولا يدخر إلا يوم الجمعة فإن ادخار حصة السبت كان مباحاً فيه‏.‏ وعن وهب أنه الخبز الرقاق، وقيل‏:‏ المراد به جميع ما منّ الله تعالى به عليهم في التيه وجاءهم عفواً بلا تعب، وإليه ذهب الزجاج ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الكمأة من المنّ الذي منّ الله تعالى به على بني إسرائيل» والسلوى اسم جنس أيضاً واحدها سلواة كما قاله الخليل‏.‏ وليست الألف فيها للتأنيث وإلا لما أنثت بالهاء في قوله‏.‏

كما انتفض السلوات من بلل القطر *** وقال‏:‏ الكسائي‏:‏ السلوى واحدة وجمعها سلاوي، وعند الأخفش الجمع والواحد بلفظ واحد، وقيل‏:‏ جمع لا واحد له من لفظه وهو طائر يشبه السماني أو هو السماني بعينها وكانت تأتيهم من جهة السماء بكرة وعشياً أو متى أحبوا فيختارون منها السمين ويتركون منها الهزيل، وقيل‏:‏ إن ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي، وفي رواية كانت تنزل عليهم مطبوخة ومشوية وسبحان من يقول للشيء كن فيكون وذكر السدوسي أن السلوى هو العسل بلغة كنانة ويؤيده؛ قول الهذلي‏:‏

وقاسمتها بالله جهراً لأنتم *** ألذ من ‏(‏السلوى‏)‏ إذا ما نشورها

وقول ابن عطية إنه غلط غلط، واشتقاقها من السلوة لأنها لطيبها تسلي عن غيرها وعطفها على بعض وجوه المنّ من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه‏.‏

‏{‏كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم‏}‏ أمر إباحة على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين، والطيبات المستلذات وذكرها للمنة عليهم أو الحلالات فهو للنهي عن الإدخار، و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض، وأبعد من جعلها للجنس أو للبدل، ومثله من زعم أن هذا على حذف مضاف أي من عوض طيبات قائلاً إن الله سبحانه عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة من قبل بالمنّ والسلوى فكانا بدلاً من الطيبات، و‏{‏مَا‏}‏ موصولة والعائد محذوف أي رزقناكموه أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول، واستنبط بعضهم من الآية أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك وهو أحد أقوال في المسألة‏.‏

‏{‏وَمَا ظَلَمُونَا‏}‏ عطف على محذوف أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر أو فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا بذلك، ويجوز كما في «البحر» أن لا يقدر محذوف لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلهاً، وسؤال رؤيته تعالى ظلماً وغير ذلك فجاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمُونَا‏}‏ بجملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا منها نقص ولا ضرر، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه ألبتة‏.‏

‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بالكفران أو بما فعلوا إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفيه ضرب تهكم بهم، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم عليه، وفي ذكر ‏(‏أنفسهم‏)‏ بجمع القلة تحقير لهم وتقليل، والنفس العاصية أقل من كل قليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية‏}‏ منصوبة على الظرفية عند سيبويه، والمفعولية عند الأخفش، والظاهر أن الأمر بالدخول على لسان موسى عليه السلام كالأوامر السابقة واللاحقة والقرية بفتح القاف والكسر لغة أهل اليمن المدينة من قريت إذا جمعت سميت بذلك لأنها تجمع الناس على طريقة المساكنة، وقيل‏:‏ إن قلوا قيل لها‏:‏ قرية، وإن كثروا قيل لها مدينة، وأنهى بعضهم حدّ القلة إلى ثلاثة، والجمع القرى على غير قياس، وقياس أمثاله فعال كظبية وظباء وفي المراد بها هنا خلاف جمّ والمشهور عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والسدي، والربيع، وغيرهم وإليه ذهب الجمهور أنها بيت المقدس، وقد كان هذا الأمر بعد التيه والتحير وهو أمر إباحة يدل عليه عطف ‏{‏فَكُلُواْ‏}‏ الخ وهو غير الأمر المذكور بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏ لأنه كان قبل ذلك وهو أمر تكليف كما يدل عليه عطف النهي، ومنهم من زعم اتحادهما، وجعل هذا الأمر أيضاً للتكليف‏.‏ وحمل تبديل الأمر على عدم امتثاله بناء على أنه لم يدخلوا القدس في حياة موسى عليه السلام، ومنهم من ادّعى اختلافهما لكنه زعم أن ما هنا كان بعد التيه على لسان يوشع لا على لسان موسى عليهما السلام لأنه وأخاه هرون ماتا في التيه وفتح يوشع مع بني إسرائيل أرض الشام بعد موته عليه السلام بثلاثة أشهر، ومنهم من قال الأمر في التيه بالدخول بعد الخروج عنه ولا يخفى ما في كل، فالأظهر ما ذكرنا‏.‏ وقد روي أن موسى عليه السلام سار بعد الخروج من التيه بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحاء وهي بأرض القدس وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض، وكأنهم أمروا بعد الفتح بالدخول على وجه الإقامة والسكنى كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ‏}‏ الخ، وقوله تعالى في الأعراف ‏(‏161‏)‏ ‏{‏اسكنوا هذه القرية‏}‏ ويؤكد كونه بعد الفتح الإشارة بلفظ القريب، والقول بأنها نزلت منزلة القريب ترويجاً للأمر بعيد، ولا ينافي هذا ما مر من أنه مات في التيه لأن المراد به المفازة لا التيه مصدر تاه يتيه تيهاً بالكسر والفتح وتيهاناً إذا ذهب متحيراً فليفهم‏.‏

 رغداً‏)‏ على أنهم مرخصون بالأكل منها واسعاً وليس عليهم القناعة لسد الجوعة، ويحتمل أن يكون وعداً لهم بكثرة المحصولات وعدم الغلاء، وأخر هذه المنصوب هنا مع تقديمه في آية آدم عليه السلام قبل لمناسبة الفاصلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادخلوا الباب سُجَّدًا‏}‏ والخلاف في نصب ‏(‏الباب‏)‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا‏}‏ أي واسعاً هنيئاً ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين، وفي الكلام إشارة إلى حلّ جميع مواضعها لهم، أو الإذن بنقل حاصلها إلى أي موضع شاءوا مع دلالة ‏(‏رغداً‏)‏ على أنهم مرخصون بالأكل منها واسعاً وليس عليهم القناعة لسد الجوعة، ويحتمل أن يكون وعداً لهم بكثرة المحصولات وعدم الغلاء، وأخر هذه المنصوب هنا مع تقديمه في آية آدم عليه السلام قبل لمناسبة الفاصلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادخلوا الباب سُجَّدًا‏}‏ والخلاف في نصب ‏(‏الباب‏)‏ في نصب ‏{‏هذه القرية‏}‏ والمراد بها على المشهور أحد أبواب بيت القدس، وتدعى الآن باب حطة قاله ابن عباس، وقيل‏:‏ الباب الثامن من أبوابه، ويدعي الآن باب التوبة وعليه مجاهد وزعم بعضهم أنها باب القبة التي كانت لموسى وهرون عليهما السلام يتعبدان فيها، وجعلت قبلة لبني إسرائيل في التيه، وفي وصفها أمور غريبة في القصص لا يعلمها إلا الله تعالى‏.‏

و ‏(‏سجداً‏)‏ حال من ضمير ‏{‏أَدْخِلُواْ‏}‏ والمراد خضعاً متواضعين لأن اللائق بحال المذنب التائب والمطيع الموافق الخشوع والمسكنة، ويجوز حمل السجود على المعنى الشرعي، والحال مقارنة أو مقدرة، ويؤيد الثاني ما روي عن وهب في معنى الآية إذا دخلتموه فاسجدوا شكراً لله أي على ما أنعم عليكم حيث أخرجكم من التيه ونصركم على من كنتم منه تخافون وأعادكم إلى ما تحبون وقول الزمخشري أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله تعالى وتواضعاً لم نقف على ما يدل عليه من كتاب وسنة، وفسر ابن عباس السجود هنا بالركوع، وبعضهم بالتطامن والانحناء قالوا‏:‏ وأمروا بذلك لأن الباب كان صغيراً ضيقاً يحتاج الداخل فيه إلى انحناء، وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏ادخلوا الباب سُجَّداً‏}‏ فدخلوا يزحفون على أستاهمم2‏.‏

‏{‏وَقُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ أي مسالتنا، أو شأنك يا ربنا أن تحط عنا ذنوبنا، وهي فعلة من الحط كالجلسة، وذكر أبان أنها بمعنى التوبة وأنشد‏:‏

فاز ‏(‏بالحطة‏)‏ التي جعل الل *** ه بها ذنب عبده مغفوراً

 والحق أن تفسيرها بذلك تفسير باللازم، ومن البعيد قول أبي مسلم‏:‏ إن المعنى أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها لعدم ظهور تعلق الغفران به وترتب التبديل عليه إلا أن يقال كانوا مأمورين بهذا القول عند الحط في القرية لمجرد التعبد، وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب بمعنى حط عنا ذنوبنا ‏(‏حطة‏)‏ أو نسألك ذلك، ويجوز أن يكون النصب على المفعولية لقولوا أي قولوا هذه الكلمة بعينها وهو المروي عن ابن عباس ومفعول القول عند أهل اللغة يكون مفرداً إذا أريد به لفظه ولا عبرة بما في «البحر» من المنع إلا أنه يبعد هذا إن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها، ولأن الظاهر أنهم أمروا أن يقولوا قولاً دالاً على التوبة والندم حتى لو قالوا اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلاً ولا تتوقف التوبة على ذكر لفظة بعينها، ولهذا قيل‏:‏ الأوجه في كونها مفعولاً لقولوا أن يراد قولوا أمراً حاطاً لذنوبكم من الاستغفار، وحينئذ يزول عن هذا الوجه الغبار، ثم هذه اللفظة على جميع التقادير عربية معلومة الاشتقاق، والمعنى وهو الظاهر المسموع، وقال الأصم‏:‏ هي من ألفاظ أهل الكتاب لا نعرف معناها في العربية‏.‏

وذكر عكرمة إن معناها لا إله إلا الله وهو من الغرابة بمكان‏.‏

‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم‏}‏ بدخولكم الباب سجداً وقولكم حطة‏.‏ والخطايا أصلها خطايىء بياء بعد ألف ثم همزة فأبدلت الياء عند سيبويه الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفاً، وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء، وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر، وقرأ نافع ‏{‏يَغْفِرُ‏}‏ بالياء وابن عامر بالتاء على البناء للمجهول، والباقون بالنون والبناء للمعلوم وهو الجاري على نظام ما قبله وما بعده ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ ‏{‏خطاياكم‏}‏ وأمالها الكسائي، وقرأ الجحدري وقتادة ‏{‏تَغْفِرْ‏}‏ بضم التاء، وأفرد الخطيئة وقرأ الجمهور بإظهار الراء من ‏{‏يَغْفِرُ‏}‏ عند اللام وأدغمها قوم، قالوا‏:‏ وهو ضعيف‏.‏

‏{‏وَسَنَزِيدُ المحسنين‏}‏ معطوف على جملة ‏{‏قُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ وذكر أنه عطف على الجواب، ولم ينجزم لأن السين تمنع الجزاء عن قبول الجزم، وفي إبرازه في تلك الصورة دون تردد دليل على أن المحسن يفعل ذلك ألبتة، وفي الكلام صفة الجمع مع التفريق، فإن ‏{‏قُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ جمع، و‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ و‏{‏سَنَزِيدُ‏}‏ تفريق، والمفعول محذوف، أي ثواباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ أي بدل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم قولاً غيره ‏{‏فَبَدَّلَ‏}‏ يتعدى لمفعولين أحدهما‏:‏ بنفسه والآخر‏:‏ بالياء، ويدخل على المتروك فالذمّ متوجه وجوّز أبو البقاء أن يكون بدل محمولاً على المعنى، أي‏:‏ فقال الذين ظلموا قولاً الخ، والقول بأن ‏(‏غير‏)‏ منصوب بنزع الخافض، كأنه قيل‏:‏ فغيروا قولاً بغيره غير مرضي من القول، وصرح سبحانه بالمغايرة مع استحالة تحقق التبديل بدونها تحقيقاً لمخالفتهم وتنصيصاً على المغايرة من كمل وجه؛ وظاهر الآية انقسام من هناك إلى ظالمين وغير ظالمين وأن الظالمين هم الذين بدلوا وإن كان المبدل الكل كان وضع ذلك من وضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بالعلة واختلف في القول الذي بدلوه ففي الصحيحن أنهم قالوا‏:‏ حبة في شعيرة، وروى الحاكم ‏{‏حنطة‏}‏ بدل ‏{‏وَقُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ وفي «المعالم» إنهم قالوا بلسانهم حطة سمقاثاً أي حنطة حمراء، قالوا ذلك استهزاء منهم بما قيل لهم، والروايات في ذلك كثيرة، وإذا صحت يحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين، والقول بأنه لم يكن منهم تبديل ومعنى فبدلوا لم يفعلوا ما أمروا به، لا أنهم أتوا ببدل له غير مسلم وإن قاله أبو مسلم وظاهر الآية، والأحاديث تكذبه‏.‏

 ‏{‏فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ وضع المظهر موضع الضمير مبالغة في تقبيح أمرهم، وإشعاراً بكون ظلمهم وإضرارهم أنفسهم بترك ما يوجب نجاتها، أو وضعهم غير المأمور به موضعاً سبباً لإنزال الرجز وهو العذاب وتكسر راؤه وتضم والضم لغة بني الصعدات وبه قرأ ابن محيصن والمراد به هنا كما روى عن ابن عباس ظلمة وموت، يروى أنه مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً، وقال وهب‏:‏ طاعون غدوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك، وقال ابن جبير‏:‏ ثلج هلك به منهم سبعون ألفاً فإن فسر بالثلج كان كونه ‏{‏مّنَ السماء‏}‏ ظاهراً وإن بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء أو مبالغة في علوّه بالقهر والاستيلاء، وذكر بعض المحققين أن الجار والمجرور ظرف مستقر وقع صفة لرجزاً و‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ متعلق به لنيابته عن العامل علة له، وكلمة ‏(‏ما‏)‏ مصدرية، والمعنى‏:‏ أنزلنا على الذين ظلموا لظلمهم عذاباً مقدراً بسبب كونهم مستمرين على الفسق في الزمان الماضي، وهذا أولى من جعل الجار والمجرور ظرفاً لغواً متعلقاً بأنزلنا لظهوره على سائر الأقوال، ولئلا يحتاج في تعليل الانزال بالفسق بعد التعليل المستفاد من التعليق بالظلم إلى القول بأن الفسق عين الظلم وكرر للتأكيد، أو أن الظلم أعم والفسق لا بد أن يكون من الكبائر، فبعد وصفهم بالظلم وصفوا بالفسق للإيذان بكونه من الكبائر، فإن الأول‏:‏ بضاعة العاجز‏.‏

والثاني‏:‏ لا يدفع ركاكة التعليل، وما قيل‏:‏ إنه تعليل للظلم فيكون إنزال العذاب مسبباً عن الظلم المسبب عن الفسق ليس بشيء،، إذ ظلمهم المذكور سابقاً، الذي هو سبب الإنزال لا يحتاج إلى العلة، وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ‏}‏ الخ؛ وترتب العذاب على التبديل، على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر، وقال قول‏:‏ يجوز ذلك إذا كانت الكلمة الثانية تسد الأولى، وعلى هذا جرى الخلاف كما في البحر في قراءة القرآن بالمعنى ورواية الحديث به، وجرى في تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك، والبحث مفصل في محله هذا‏.‏ وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمه الله تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات‏.‏ الأول‏:‏ قال هنا‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8 5‏]‏ لما قدم ذكر النعم؛ فلا بد من ذكر المنعم، وهناك ‏{‏وَإِذْ قِيلَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 161‏]‏ إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به‏.‏ الثاني‏:‏ قال هنا‏:‏ ‏{‏أَدْخِلُواْ‏}‏ وهناك ‏{‏اسكنوا‏}‏ لأن الدخول مقدم، ولذا قدم وضعاً المقدم طبعاً‏.‏ الثالث‏:‏ قال هنا‏:‏ ‏{‏خطاياكم‏}‏ بجمع الكثرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه، واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة، وهناك ‏{‏خطيئاتكم‏}‏ بجمع القلة إذ لم يصرح بالفاعل‏.‏ الرابع‏:‏ قال هنا‏:‏ ‏{‏رَغَدًا‏}‏ دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا، فناسب ذكر الإنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك‏.‏

الخامس‏:‏ قال هنا‏:‏ ‏{‏ادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ وهناك بالعكس، لأن الواو لمطلق الجمع، وأيضاً المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين، والبعض الآخر ما كانوا كذلك، فالمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدماً على اشتغاله بالعبادة، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا‏:‏ ‏(‏حطة‏)‏ ثم يدخلوا وأما الذي لا يكون مذنباً، فالأولى به أن يشتغل أولاً‏:‏ بالعبادة ثم يذكر التوبة‏.‏ ثانياً‏:‏ للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أن يدخلوا ثم يقولوا فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين، لا جرم ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى‏.‏ السادس‏:‏ قال هنا‏:‏ ‏{‏وَسَنَزِيدُ‏}‏ بالواو وهناك بدونه، إذ جعل هنا المغفرة مع الزيادة جزاءاً واحداً لمجموع الفعلين، وأما هناك فالمغفرة جزاء قول ‏(‏حطة‏)‏ والزيادة جزاء الدخول فترك ‏(‏الواو‏)‏ يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين‏.‏

السابع‏:‏ قال هناك‏:‏ ‏{‏الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 162‏]‏ وهنا لم يذكر ‏(‏ منهم‏)‏ لأن أول القصة هناك مبني على التخصيص بـ ‏{‏مِنْ‏}‏ حيث قال‏:‏ ‏{‏وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 159‏]‏ فخص في آخر الكلام ليطابق أوله؛ ولما لم يذكر في الآيات التي قبل ‏{‏فَبَدَّلَ‏}‏ هنا تمييزاً وتخصيصاً لم يذكر في آخر القصة ذلك‏.‏ الثامن‏:‏ قال هنا‏:‏ ‏{‏فَأَنزَلْنَا‏}‏ وهناك ‏{‏فَأَرْسَلْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 162‏]‏ لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسليطه عليهم واستئصاله لهم، وذلك يكون بالآخرة‏.‏ التاسع‏:‏ قال هنا‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8 5‏]‏ بالفاء وهناك بالواو لما مر في ‏{‏وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 3‏]‏ وهو أن كل فعل عطف عليه شيء وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو فلما تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ‏}‏ ولما لم يتعلق الأكل بالسكون في الأعراف ‏(‏161‏)‏ قيل‏:‏ ‏{‏وَكُلُواْ‏}‏‏.‏ العاشر‏:‏ قال هنا‏:‏ ‏{‏يَفْسُقُونَ‏}‏ وهناك ‏{‏يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 162‏]‏ لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلماً اكتفى بلفظ الظلم هناك انتهى‏.‏ ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر، أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولاً كما أنها متقدمة عليها ترتيباً وليس كذلك، فإن سورة البقرة كلها مدنية، وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163 171‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسكنوا هذه القرية‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 161‏]‏ داخل في الآيات المكية، فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة‏.‏ وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق الأكل بالسكون لأنهم إذا سكنوا القرية، تتسبب سكناهم للأكل منها كما ذكر الزمخشري، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، فحينئذ لا فرق بين ‏{‏كُلُواْ‏}‏ و‏{‏فَكُلُواْ‏}‏ فلا يتم الجواب، وأما الثالث فلأنه تعالى وإن قال في الأعراف ‏(‏161‏)‏ ‏{‏وَإِذْ قِيلَ‏}‏ لكنه قال في السورتين‏:‏ ‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 58، الأعراف‏:‏ 161‏]‏ وأضاف الغفران إلى نفسه، فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين جمع الكثرة بل لا شك أن رعاية ‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ أولى من رعاية ‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ‏}‏ لتعلق الغفران بالخطايا كما لا يخفى على العارف بالمزايا‏.‏ وأما الرابع فلأنه تعالى وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى لكنه مسند إليه في نفس الأمر، فينبغي أن يذكر الإنعام الأعظم في السورتين‏.‏

وأما الخامس فلأن القصة واحدة، وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق فعلى مقتضى ما ذكر ينبغي أن يذكر ‏{‏وَقُولُواْ حِطَّةٌ‏}‏ مقدماً في السورتين‏.‏ وأما السادس فلأن القصة واحدة، وأن الواو لمطلق الجمع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَّغْفِرْ‏}‏ في مقابلة ‏{‏قُولُواْ‏}‏ سواء قدم أو أخر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَنَزِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏ في مقابلة ‏{‏وادخلوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 161‏]‏ سواء ذكر الواو أو ترك، وأما السابع فلأنه تعالى قد ذكر هنا قبل ‏{‏فَبَدَّلَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 59‏]‏ ما يدل على التخصيص والتمييز، حيث قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 57‏]‏ الخ بكافات الخطاب وصيغته فاللائق حينئذ أن يذكر لفظ ‏(‏منهم‏)‏ أيضاً، والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حكاها ما ذكره الزمخشري من أنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسكنوا هذه القرية‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 161‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَكُلُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 161‏]‏ لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، وسواء قدموا ‏(‏الحطة‏)‏ على دخول الباب أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهما، وترك ذكر الرغد لا يناقض إثباته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم سَنَزِيدُ المحسنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 161‏]‏ موعد بشيئين بالغفران والزيادة، وطرح الواو لا يخل لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل‏:‏ ماذا بعد الغفران‏؟‏ فقيل له‏:‏ ‏{‏سَنَزِيدُ المحسنين‏}‏ وكذلك زيادة ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ زيادة بيان و‏{‏فَأَرْسَلْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 162‏]‏ و‏{‏أَنزَلْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7 5‏]‏ و‏{‏يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 162‏]‏ و‏{‏يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9 5‏]‏ من دار واحد، انتهى‏.‏

وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني، والله يؤتي فضله من يشاء، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ‏}‏ لموسى القلب ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ‏}‏ الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان ‏{‏فَأَخَذَتْكُمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55‏]‏ صاعقة الموت الذي هو الفناء في التجلي الذاتي وأنتم تراقبون أو تشاهدون ‏{‏ثُمَّ بعثناكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 56‏]‏ بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عز وجل، ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ‏}‏ غمام تجلي الصفات لكونها حجب الذات المحرقة سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ‏}‏ من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإذهاب رذائل أخلاق النفس، كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية التي يحشرها عليكم ريح الرحمة، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها، فتسلون بذلك ‏(‏ السلوى‏)‏ وتنسون من لذائذ الدنيا كل ما يشتهى ‏{‏كُلُواْ‏}‏ أي تناولوا وتلقوا هذه الطيبات التي رزقتموها حسب استعدادكم، وأعطيتموها على ما وعد لكم ‏{‏وَمَا ظَلَمُونَا‏}‏ أي ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات أنفسهم، ولكن كانوا ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها، وهذا هو الخسران المبين‏.‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية‏}‏ أي المحل المقدس الذي هو مقام المشاهدة ‏{‏وادخلوا الباب‏}‏ الذي هو الرضا بالقضاء، فهو باب الله تعالى الأعظم ‏{‏سُجَّدًا‏}‏ منحنين خاضعين لما يرد عليكم من التجليات، واطلبوا أن يحط الله تعالى عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم، فإن فعلتم ذلك ‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم‏}‏ «فمن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً‏.‏ ومن تقرب إليّ ذراعاً، تقربت إليه باعاً‏.‏ ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» ‏{‏وَسَنَزِيدُ المحسنين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 58‏]‏ أي المشاهدين «ما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وهل ذلك إلا الكشف التام عن الذات الأقدس‏.‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أنفسهم وأضاعوها ووضعوها في غير موضعها اللائق بها ‏{‏قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ ابتغاءاً للحظوظ الفانية والشهوات الدنية‏.‏ ‏{‏فَأَنزَلْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9 5‏]‏ على الظالمين خاصة، عذاباً وظلمة وضيقاً في سجن الطبيعة، وإسراً في وثاق التمني، وقيد الهوى، وحرماناً، وذلاً بمحبة الماديات السفلية، والإعراض عن هاتيك التجليات العلية، وذلك من جهة قهر سماء الروح، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة القلب الذي لا يأمر إلا بالهدى كما ورد في الأثر «إستفت قلبك وإن أفتاك المفتون» إلى طاعة النفس الأمارة بالسوء‏.‏ وهذا هو البلاء العظيم، والخطب الجسيم‏.‏

من كان يرغب في السلامة فليكن *** أبداً من الحدق المراض عياذه

لا تخدعنك بالفتور فإنه *** نظر يضر بقلبك استلذاذه

إياك من طمع المنى فعزيزه *** كذليله، وغنيه شحاذه

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ‏}‏ تذكير لنعمة عظيمة كفروا بها وكان ذلك في التيه لما عطشوا ففي بعض الآثار أنهم قالوا فيه‏:‏ من لنا بحر الشمس فظلل عليهم الغمام وقالوا‏:‏ من لنا بالطعام فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى وقالوا‏:‏ من لنا بالماء فأمر موسى بضرب الحجر وتغير الترتيب لقصد إبراز كل من الأمور المعدود في معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكر، ولو روعي الترتيب الوقوعي لفهم أن الكل أمر واحد أمر بذكره والاستسقاء طلب السقيا عند عدم الماء أو قلته‏.‏ قيل‏:‏ ومفعول استسقى محذوف أي ربه أو ماء وقد تعدى هذا الفعل في الفصيح إلى المستسقى منه تارة وإلى المستسقي أخرى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ استسقاه قَوْمُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 160‏]‏ وقوله‏:‏

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وتعديته إليهما مثل أن تقول‏:‏ استسقى زيد ربه الماء لم نجدها في شيء من كلام العرب واللام متعلقة بالفعل، وهي سببية أي لأجل قومه‏.‏

‏{‏فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر‏}‏ أي فأجبناه ‏{‏فَقُلْنَا‏}‏ الخ والعصا مؤنث والألف منقلبة عن واو بدليل عصوان وعصوته أي ضربته بالعصا ويجمع على أفعل شذوذاً وعلى فعول قياساً، فيقال‏:‏ أعصى وعصى، وتتبع حركة العين حركة الصاد و‏(‏ الحجر‏)‏ هو هذا الجسم المعروف، وجمعه أحجار وحجار، وقالوا‏:‏ حجارة، واشتقوا منه فقالوا‏:‏ استحجر الطين، والاشتقاق من الأعيان قليل جداً‏.‏ والمراد بهذه ‏(‏العصا‏)‏ المسؤول عنها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏ والمشهور أنها من آس الجنة طولها عشرة أذرع طول موسى عليه السلام لها شعبتان تتقدان في الظلمة، توارثها صاغر عن كابر حتى وصلت إلى شعيب ومنه إلى موسى عليهما السلام؛ وقيل‏:‏ رفعها له ملك في طريق مدين، وفي المراد من ‏(‏الحجر‏)‏ خلاف، فقال الحسن‏:‏ لم يكن حجراً معيناً، بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء، وهذا أبلغ في الإعجاز وأبين في القدرة، وقال وهب‏:‏ كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر، وعلى هذا اللام فيه للجنس، وقيل‏:‏ للعهد، وهو حجر معين حمله معه من الطور مكعب له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم، وكانوا ستمائة ألف ما عدا دوابهم، وسعة المعسكر إثنا عشر ميلاً، وقيل‏:‏ حجر كان عند آدم وصل مع العصا إلى شعيب فدفع إلى موسى، وقيل‏:‏ هو الحجر الذي فر بثوبه، والقصة معروفة‏.‏

وقيل‏:‏ حجر أخذ من قعر البحر خفيف يشبه رأس الآدمي كان يضعه في مخلاته، فإذا احتاج للماء ضربه‏.‏ والروايات في ذلك كثيرة، وظاهر أكثرها التعارض، ولا ينبني على تعيين هذا الحجر أمر ديني، وإلا سلم تفويض علمه إلى الله تعالى‏.‏

‏{‏فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا‏}‏ عطف على مقدر، أي فضرب فانفلق، ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار، ولو كان ينفجر دون ضرب لما كان للأمر فائدة، وبعضهم يسمي هذه الفاء الفصيحة ويقدر شرطاً أي فإن ضربت فقد انفجرت وفي «المغني»‏:‏ إن هذا التقدير يقتضي تقدم الانفجار على الضرب، إلا أن يقال‏:‏ المراد فقد حكمنا بترتب الانفجار على ضربك، وقال بعض المتأخرين‏:‏ لا حذف، بل الفاء للعطف وإن مقدرة بعد الفاء كما هو القياس، بعد الأمر عند قصد السببية، والتركيب من قبيل زرني فأكرمك أي ‏(‏اضرب بعصاك الحجر‏)‏ فإن انفجرت فليكن منك الضرب فالانفجار ولا يخفى ما في كل حتى قال مولانا مفتي الديار الرومية في الأول‏:‏ إنه غير لائق بجلالة شأن النظم الكريم‏.‏ والثاني‏:‏ أدهى وأمر والانفجار انصداع شيء من شيء، ومنه الفجر والفجور، وجاء هنا ‏{‏انفجرت‏}‏ وفي الأعراف ‏(‏160‏)‏ ‏{‏فانبجست‏}‏ فقيل‏:‏ هما سواء‏.‏ وقيل‏:‏ بينهما فرق وهو أن الانبجاس أول خروج الماء، والانفجار اتساعه وكثرته، أو الانبجاس خروجه من الصلب، والآخر خروجه من اللين، والظاهر استعمالهما بمعنى واحد وعلى فرض المغايرة لا تعارض لاختلاف الأحوال، و‏(‏ من‏)‏ لابتداء الغاية، والضمير عائد على الحجر المضروب وعوده إلى الضرب، و‏(‏ من‏)‏ سببية مما لا ينبغي الإقدام عليه، والتاء في إثنتا للتأنيث ويقال‏:‏ ثنتا إلا أن التاء فيها على ما في «البحر» للإلحاق، وهذا نظير أنبت، ونبت ولامها محذوفة، وهي ياء لأنها من ثنيت، وقرأ مجاهد وجماعة ورواه السعدي عن أبي عمرو عشرة بكسر الشين وهي لغة بني تميم، وقرأ الفضل الأنصاري بفتحها قال ابن عطية‏:‏ وهي لغة ضعيفة، ونص بعضها النحاة على الشذوذ، ويفهم من بعض المتأخرين إن هذه اللغات في المركب لا في عشرة وحدها، وعبارات القوم لا تساعده، والعين منبع الماء وجمع على أعين شذوذاً وعيون قياساً، وقالوا في أشراف الناس‏:‏ أعيان، وجاء ذلك في الباصرة قليلاً كما في قوله‏:‏

أعياناً لها ومآقيا *** وهو منصوب على التمييز، وإفراده في مثل هذا الموضع لازم، وأجاز الفراء أن يكون جمعاً، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطاً وكان بينهم تضاغن وتنافس فأجرى الله تعالى لكل سبط عيناً يردها لا يشركه فيها أحد من السبط الآخر دفعاً لإثارة الشحناء، ويشير إلى حكمة الانقسام، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ‏}‏ وهي جملة مستأنفة مفهمة على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدى لمشرب غيره، و‏(‏ أناس‏)‏ جمع لا واحد له من لفظه، وما ذكر من شذوذ إثبات همزته إنما هو مع الألف واللام، وأما بدونها فشائع صحيح، و‏(‏ عَلِمَ‏)‏ هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف ووجد ذلك بكثرة والمشرب إما اسم مكان أي محل الشرب، أو مصدر ميمي بمعنى الشرب، وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء، وحمله على المكان أولى عند أبي حيان، وإضافة المشرب إليهم لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم وأعاد الضمير في مشربهم على معنى ‏{‏كُلٌّ‏}‏ ولا يجوز أن يعود على لفظها لأن كُلاً متى أضيف إلى نكرة وجب مراعاة المعنى كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم‏}‏ ‏[‏الإسرار‏:‏ 1 7‏]‏ وقوله‏:‏

وكل أناس سوف تدخل بينهم *** دويهية تصفر منها الأنامل

ونص على المشرب تنبيهاً على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة وإن كان سرد الكلام يقتضي قد علم كل أناس عينهم وفي الكلام حذف أي منها لأن ‏{‏قَدْ عَلِمَ‏}‏ صفة لاثنتا عشرة عيناً فلا بد من رابط، وإنما وصفها به لأنه معجزة أخرى حيث يحدث مع حدوث الماء جداول يتميز بها مشرب كل من مشرب آخر، ويحتمل أن تكون الجملة حالية لا صفة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اثنتا عَشْرَةَ‏}‏ لئلا يحتاج إلى تقدير العائد وليفيد مقارنة العلم بالمشارب للانفجار، والمشرب حينئذٍ العين

‏{‏كُلُواْ واشربوا مِن رّزْقِ الله‏}‏ على إرادة القول، وبدأ بالأكل لأن قوام الجسد به، والاحتياج إلى الشرب حاصل عنه، و‏(‏ من‏)‏ لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتبعيض، وفي ذكر الرزق مضافاً تعظيم للمنة، وإشارة إلى حصول ذلك لهم من غير تعب ولا تكلف، وفي هذا التفات إذ تقدم ‏{‏فَقُلْنَا اضرب‏}‏ ولو جرى على نظم واحد لقال من رزقنا، ولو جعل الإضمار قبل ‏{‏كُلُواْ‏}‏ مسنداً إلى موسى أي وقال موسى‏:‏ كلوا واشربوا لا يكون فيه ذلك، والرزق هنا بمعنى المرزوق وهو الطعام المتقدم من المنّ والسلوى، والمشروب من ماء العيون، وقيل‏:‏ المراد به الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت منه ويضعفه أنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الارض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 6‏]‏ و‏{‏لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 6‏]‏ ويلزم عليه أيضاً الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ يؤول إلى كلوا واشربوا من الماء، ويكون نسبة الشرب إليه بإرادة ذاته، والأكل بإرادة ما هو سبب عنه، أو القول بحذف متعلق أحد الفعلين أي كلوا من رزق الله واشربوا من رزق الله، وقول بعض المتأخرين إن رزق الله عبارة عن الماء، وفي الآية إشارة إلى إعجاز آخر وهو أن هذا الماء كما يروي العطشان يشبع الجوعان فهو طعام وشراب بعيد غاية البعد، وأقرب منه أن لا يكون ‏{‏كُلُواْ واشربوا‏}‏ بتقدير القول من تتمة ما يحكى عنهم بل يجعل أمراً مرتباً على ذكرهم ما وقع وقت الاستسقاء على وجه الشكر والتذكير بقدرة الله تعالى فهو أمر المخاطبين بهذه الحكاية بأكلهم وشربهم مما يرزقهم الله تعالى، وعدم الإفساد بإضلال الخلق، وجمع عرض الدنيا ويكون فصله عما سبق لأنه بيان للشكر المأمور أو نتيجة للمذكور

واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة فاقتضى أن يكون الرزق مباحاً فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحاً وحراماً، وأنه غير جائز، والجواب أن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد المنّ والسلوى والماء المنفجر من الحجر، ولا يلزم من حلية معين مّا من أنواع الرزق حلية جميع الرزق وعلى تسليم العموم يلتزم التبعيض

‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ‏}‏ لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله تعالى ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار كان ذلك إنعاماً وإحساناً جزيلاً إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المأكل والمشرب نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك وهو الفساد حتى لا يقابلوا تلك النعم بالكفران، والعثي عند بعض المحققين مجاوزة الحد مطلقاً فساداً كان أولاً فهو كالاعتداء، ثم غلب في الفساد، و‏(‏ مفسدين‏)‏ على هذا حال غير مؤكدة وهو الأصل فيها كما يدل عليه تعريفها، وذكر أبو البقاء أن العُثِيّ الفساد والحال مؤكدة، وفيه أن مجىء الحال المؤكدة بعد الفعلية خلاف مذهب الجمهور‏.‏

وذهب الزمخشري أن معناه أشد الفساد والمعنى لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم، والمقصد النهي عما كانوا عليه من التمادي في الفساد وهو من أسلوب ‏{‏لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 130‏]‏ وإلا فالفساد أيضاً منكر منهي عنه، وفيه أنه تكلف مستغنى عنه بما ذكرنا، والمراد من ‏(‏الأرض‏)‏ عند الجمهور أرض التيه‏.‏ ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليها فينالها فسادهم، وجوز أن يريد الأرضين كلها، و‏(‏ أل‏)‏ لاستغراق الجنس، ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات، وذلك انتقام يعم الأرضين، هذا ثم إن ظاهر القرآن لا يدل على تكرر هذا الاستسقاء ولا الضرب ولا الانفجار فيحتمل أن يكون ذلك متكرراً، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة والواحدة هي المتحققة‏.‏

والحكايات في هذا الأمر كثيرة وأكثرها لا صحة له، وقد أنكر بعض الطبيعيين هذه الواقعة وقال‏:‏ كيف يعقل خروج الماء العظيم الكثير من الحجر الصغير، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات فقد ترك النظر على طريقتهم إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجذب الحديد والحجر الحلاق يحلق الشعر والحجر الباغض للخل ينفر منه، وذلك كله من أسرار الطبيعة وإذا لم يكن مثل ذلك منكراً عندهم فليس يمتنع أن يخلق في حجر آخر قوة جذب الماء من تحت الأرض، ويكون خلق تلك القوة عند ضرب العصا أو عند أمر موسى عليه السلام على ما ورد أنه كان بعد ذلك يأمره، فينفجر ولا ينافيه انفصاله عن الأرض كما وهم، ويحتمل أيضاً أن يقلب الله تعالى بواسطة قوة أودعها في الحجر الهواء ماء بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها‏.‏ والله تعالى على كل شيء قدير، وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو مستسق ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا لا إله إلا الله ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نوراً عند استيلاء ظلمات النفس، وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة ‏{‏فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا‏}‏ من مياه الحكمة لأن كلمة لا إله إلا الله اثنتا عشرة حرفاً فانفجر من كل حرف عين قد عَلِمَ كل سبط من أسباط صفات الإنسان‏.‏ وهي اثنا عشر سبطاً من الحواس الظاهرة والباطنة، واثنان من القلب والنفس، ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة، و‏(‏ قد عَلِمَ‏)‏ مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن مشرب عذب فرات‏.‏ ومشرب ملح أجاج، والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات‏.‏ والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي ‏{‏وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 1 2‏]‏ للاضمحلال في حقيقة الذات ‏{‏كُلُواْ واشربوا مِن رّزْقِ الله‏}‏ بأمره ورضاه ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ‏}‏ في هذا القالب ‏{‏مُفْسِدِينَ‏}‏ بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد‏}‏ الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهبطوا‏}‏ الخ مع استحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كدّ وتعب حيث سألوا بـ ‏{‏لَن نَّصْبِرَ‏}‏ فإنه يدل على كراهيتهم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق، ولذا أنكر عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَسْتَبْدِلُونَ‏}‏ الخ، فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55‏]‏ الخ، حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا، ثم أفاض عليهم نعمة الحياة، قال مولانا الساليكوتي‏:‏ ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم، لأن الإجابة إلى المعصية معصية وهي غير جائزة على الأنبياء وإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُواْ واشربوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 0 6‏]‏ أمر إباحة لا إيجاب، فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية، ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين ‏(‏المنّ والسلوى‏)‏ اللذين رزقوهما في التيه، إما باعتبار كونه على نهج واحد كما يقال‏:‏ طعام مائدة الأمير واحد ولو كان ألواناً شتى بمعنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات، أو باعتبار كونه ضرباً واحداً لأن المنّ والسلوى من طعام أهل التلذذ والسرف، وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه، وقيل‏:‏ إنهم كانوا يطبخونهما معاً فيصير طعاماً واحداً، والقول بأن هذا القول كان قبل نزول السلوى نازل من القول، وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد السلوى لأن المنّ كان شراباً، أو شيئاً يتحلون به، فلم يعدوه طعاماً آخر، وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الاثنين كما عبر بالاثنين عن الواحد في نحو ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏ ‏[‏الرَحمن‏:‏ 22‏]‏ وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب

‏{‏فادع لَنَا رَبَّكَ‏}‏ أي سله لأجلنا بدعائك إياه بأن يخرج لنا كذا وكذا والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء، ولغة بني عامر ‏{‏فادع‏}‏ بكسر العين جعلوا دعا من ذوات الياء كرمى، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم، لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم، على أن دعاء الغير للغير مطلقاً أقرب إليها فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم‏؟‏ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم  لعمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏ أشركنا في دعائك ‏"‏ وفي الأثر‏:‏ «ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها» وحملت على ألسنة الغير، والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادىء الإجابة، وقالوا‏:‏ ‏(‏ربك‏)‏ ولم يقولوا‏:‏ ربنا، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة، فكأنهم قالوا‏:‏ ادع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا، فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك‏.‏

‏{‏يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الارض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا‏}‏ المراد بالإخراج المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي، وهو الإظهار بطريق الإيجاد لا بطريق إزالة الخفاء والحمل على المعنى الحقيق يقتضي مخرجاً عنه، وما يصلح له ههنا هو ‏(‏الأرض‏)‏ وبتقديره يصير الكلام سخيفاً، و‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ مجزوم لأنه جواب الأمر، وجزمه بلام الطلب محذوفة لا يجوز عند البصريين، و‏(‏ من‏)‏ الأولى تبعيضية أي مأكولاً بعض ما ‏(‏تنبت‏)‏ وادعى الأخفش زيادتها وليس بشيء و‏(‏ ما‏)‏ موصولة والعائد محذوف، أي تنبته، وجعلها مصدرية لم يجوّزه أبو البقاء لأن المقدر جوهر ونسبة الإنبات إلى ‏(‏الأرض‏)‏ مجاز من باب النسبة إلى القابل‏.‏ وقد أودع الله تعالى في الطبقة الطينية من الأرض أو فيها قوة قابلة لذلك، وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب ربما يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع، و‏(‏ من‏)‏ الثانية بيانية، فالظرف مستقر واقع موقع الحال، أي كائناً من ‏(‏بقلها‏)‏‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة ‏(‏ما‏)‏ فالظرف لغو متعلق ب ‏(‏يُخرجْ‏)‏ وعلى التقديرين كما قال الساليكوتي‏:‏ يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء، ولو جعل بياناً لما أفاده ‏(‏من‏)‏ التبعيضية كما قاله المولى عصام الدين لخلا الكلام عن الإفادة المذكورة، وأوهمَ أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد والبقل جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والأنعام، والمراد به هنا أطاييب البقول التي يأكلها الناس والقثاء هو هذا المعروف، وقال الخليل‏:‏ هو الخيار، وقرأ يحيى بن وثاب وغيره بضم القاف وهو لغة والفوم الحنطة وعليه أكثر الناس حتى قال الزجاج‏:‏ لا خلاف عند أهل اللغة أن الفوم الحنطة، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم الفوم وقال الكسائي وجماعة‏:‏ هو الثوم، وقد أبدلت ثاؤه فاء كما في جدث وجدف وهو بالبصل والعدس أوفق وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ونفس شيخنا عليه الرحمة إليه تميل، والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من ‏(‏الأرض‏)‏ وذكره مع البقل وغيره‏.‏ وما في «المعالم» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن الفوم الخبز يمكن توجيهه بأن معناه إنه يقال عليه، ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولاً ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهو البقل إذ منه ما هو بارد رطب كالهندبا ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسذاب ومنه ما هو حار وفيه رطوبة، كالنعناع وثانياً‏:‏ ما هو بارد رطب وهو القثاء وثالثاً‏:‏ ما هو حار يابس وهو الثوم ورابعاً‏:‏ ما هو بارد يابس وهو العدس وخامساً‏:‏ ما هو حار رطب وهو البصل وإذا طبخ صار بارداً رطباً عند بعضهم، أو يقال‏:‏ إنه ذكر أولاً ما يؤكل من غير علاج نار، وذكر بعده ما يعالج به مع ما ينبغي فيه ذلك ويقبله‏.‏

‏{‏قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ‏}‏ استئناف وقع جواباً عن سؤال مقدر، كأنه قيل‏:‏ فماذا قال لهم‏؟‏ فقيل قال‏:‏ ‏{‏أَتَسْتَبْدِلُونَ‏}‏ الخ، والقائل إما الله تعالى على لسان موسى عليه السلام، ويرجحه كون المقام مقام تعداد النعم، أو موسى نفسه وهو الأنسب بسياق النظم والاستفهام للإنكار، والاستبدال الاعتياض‏.‏

فإن قلت كونهم لا يصبرون على طعام واحد أفهم طلب ضم ذلك إليه لا استبداله به أجيب بأن قولهم‏:‏ ‏{‏لَن نَّصْبِرَ‏}‏ يدل على كراهتهم ذلك الطعام؛ وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها، وقيل‏:‏ إنهم طلبوا ذلك، وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم المنّ والسلوى فلا يجتمعان، وقيل‏:‏ الاستبدال في المعدة وهو كما ترى وقرأ أبيّ‏:‏ أتبدلون وهو مجاز، لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى أتسألون تبديل الذي الخ، و‏{‏الذى‏}‏ مفعول ‏{‏تستبدلون‏}‏ وهو الحاصل؛ و‏{‏فَلْيُؤَدّ الذى‏}‏ دخلت عليه الباء هو الزائل، وهو ‏{‏أدنى‏}‏ صلة ‏{‏الذى‏}‏ وهو هنا واجب الإثبات عند البصريين إذ لا طول، و‏{‏أدنى‏}‏ إما من الدنو أو مقلوب من الدون، وهو على الثاني ظاهر، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف، فقيل‏:‏ بعيد المحل بعيد الهمة، ويحتمل أن يكون مهموزاً من الدناءة، وأبدلت فيه الهمزة ألفاً ويؤيده قراءة زهير والكسائي ‏{‏أدنأ‏}‏ بالهمزة، وأريد بالذي هو خير المنّ والسلوى ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته، والنفع الجليل في تناوله، وعدم الكلفة في تحصيله، وخلوّه عن الشبهة في حله

‏{‏خَيْرٌ اهبطوا مِصْرًا‏}‏ جملة محكية بالقول كالأولى، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى، وهذه ليست كذلك، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال، هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى، فوجه الفصل ظاهر، والوقف على ‏(‏خير‏)‏ كاف على الأول‏:‏ وتام على الثاني‏:‏ والهبوط يجوز أن يكون مكانياً بأن يكون التيه أرفع من المصر، وأن يكون رتبياً، وهو الأنسب بالمقام، وقرىء ‏{‏اهبطوا‏}‏ بضم الهمزة والباء والمصر البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين، قال‏:‏

وجاعل الشمس ‏(‏مصراً‏)‏ لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا

وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها إذا حلبت كل شيء في ضرعها بعيد، وحكي عن أشهب أنه قال‏:‏ قال لي مالك‏:‏ هي مصر قريتك مسكن فرعون فهو إذاً عَلَمٌ وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذَكر، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث، فهو إن جعل علماً فإما باعتبار كونه بلدة، فالصرف مع العلمية، والتأنيث لسكون الوسط، وإما باعتبار كونه بلداً فالصرف على بابه، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه‏:‏ أنه في مصحف ابن مسعود ‏(‏مصر‏)‏ بلا ألف بعد الراء ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير، وأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1 2‏]‏ يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب كما يدل عليه عطف النهي وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصوراً على بلاد التيه وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين ومن الناس من جعل ‏(‏مصر‏)‏ معرب مصرائيم كإسرائيل اسم لأحد أولاد نوح عليه السلام وهو أول من اختطها فسميت باسمه، وإنما جاز الصرف حينئذٍ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر‏.‏

‏{‏فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ‏}‏ تعليل للأمر بالهبوط، وفي «البحر» أنها جواب للأمر وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة وفي ذلك محذوفان فإن ما يربط الجملة بما قبلها، والضمير العائد على ‏{‏مَا‏}‏ والتقدير‏:‏ فإن لكم فيها ما سألتموه، والتعبير عن الأشياء المسؤولة ب ‏(‏ما‏)‏ للاستهجان بذكرها، وقرأ النخعي ويحيى‏:‏ ‏{‏سَأَلْتُمْ‏}‏ بكسر السين‏.‏

‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة‏}‏ أي جعل ذلك محيطاً بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام استعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين، و‏(‏ ضربت‏)‏ استعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم، وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين، وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يَد وهم صاغرون، وبما ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وبما طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم، وبما تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم، وهذا الضرب مجازاة لهم على كفران تلك النعمة، وبهذا ارتبطت الآية بما قبلها، وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود، وشامل للمخاطبين، بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ‏}‏ ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الالتفات على ما وهم

‏{‏وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله‏}‏ أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى؛ أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما أو رجعوا بغضب أي صار عليهم، ولذا لم يحتج إلى اعتبار المرجوع إليه، أو صاروا أحقاء به، أو استحقوا العذاب بسببه وهو بعيد وأصل البواء بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم استعمل في كل مساواة فيقال‏:‏ هو بواء فلان أي كفؤه، ومنه بؤ لشسع نعل كليب وحديث‏:‏

‏"‏ فليتبوأ مقعده من النار ‏"‏ وفي وصف الغضب بكونه من الله تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم‏.‏

‏{‏ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق‏}‏ أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم، وإنما بَعّدهُ لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد، أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب، أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة، والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤل ولم يعبر به، وعبر بما عبر تنبيهاً على تجدد الكفر والقتل منهم حيناً بعد حين واستمرارهم عليهما فيما مضى، أو لاستحضار قبيح صنعهم، و‏(‏ الآيات‏)‏ إما المعجزات مطلقاً أو التسع التي أتى بها موسى عليه السلام، أو ما جاء به من التسع وغيرها، أو آيات الكتب المتلوة مطلقاً، أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ أو التي فيها الرجم أو القرآن، وفي إضافة الآيات إلى اسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم، وبدأ سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم، وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له، وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ الفرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما ‏(‏أل‏)‏ فيتساويان كما في «البحر» فلا يرد أنهم قتلوا ثلثمائة نبي في أول النهار، وأقاموا سوقهم في آخره، وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقداً حقية قتل أحد منهم عليهم السلام، وإنما حملهم عليه حب الدنيا، واتباع الهوى والغلو في العصيان، والاعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد، وقيل‏:‏ الأظهر أنها للجنس، والمراد بغير حق أصلاً إذ لام الجنس المبهم كالنكرة، ويؤيده ما في آل عمران ‏(‏12‏)‏

‏{‏بِغَيْرِ حَقّ‏}‏ فيفيد أنه لم يكن حقاً باعتقادهم أيضاً، ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر سواء كان حقاً عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل، والقول‏:‏ بأنه يمكن أن يقال لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحداً بغير حق لا يقتص، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيداً لما هو الحكم الشرعي بعيد كما لا يخفى، قال بعض المتأخرين‏:‏ هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي أي بلا حق، أما إذا كان بمعناه أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته، وقريب من هذا ما قاله القفال من إنهم كانوا يقولون‏:‏ إنهم كاذبون وأن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب، وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم، ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا فشعياء، ويحيى وزكريا عليهم السلام لم يقتلوا لذلك، وإنما قتل شعياء لأن ملكاً من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، وقتل بعضهم بعضاً فنهاهم عليه السلام فبغوا عليه وقتلوه، ويحيى عليه السلام إنما قتل لقصة تلك الامرأة لعنها الله تعالى، وكذلك زكريا لأنه لما قتل ابنه انطلق هارباً فأرسل الملك في طلبه غضباً لما حصل لامرأته من قتل ابنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجرة معه فلقتين طولاً بمنشار، ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما تنازع فيه الكفر والقتل، وفي «البحر» أنه متعلق بما عنده، وزعم بعض الملحدين أن بين هذه الآية وما أشبهها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 1 5‏]‏ تناقضاً وأجيب بأن المقتولين من الأنبياء والموعود بنصرهم الرسل ورد بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ففَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7 8‏]‏ يدل على أن المقتول رسل أيضاً، وأجاب بعضهم بأن المراد النصرة بغلبة الحجة أو الأخذ بالثأر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى قدر أن يقتل بكل نبي سبعين ألفاً، وبكل خليفة خمساً وثلاثين ألفاً ولا يخفى ما فيه، فالأحسن أن المراد بالرسل المأمورون بالقتال كما أجاب به بعض المحققين لأن أمرهم بالقتال وعدم عصمتهم لا يليق بحكمة العزيز الحكيم، وقرأ علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏(‏يقتلون‏)‏ بالتشديد، والحسن في رواية عنه ‏(‏وتقتلون‏)‏ بالتاء فيكون ذلك من الالتفات، وقرأ نافع بهمز النبيين وكذا النبي والنبوة، واستشكل بما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«يا نبىء الله بالهمزة فقال‏:‏ لست بنبىء الله يعني مهموزاً ولكن نبي الله» بغير همزة فأنكر عليه ذلك‏.‏ ولهذا منع بعضهم من إطلاقه عليه عليه الصلاة والسلام على أنه استشكل أيضاً جمع النبي على نبيين وهو فعيل بمعنى مفعول، وقد صرحوا بأنه لا يجمع جمع مذكر سالم وأجيب عن الأول بأن أبا زيد حكى نبأت من الأرض إذا خرجت منها فمنع لوهم أن معناه يا طريد الله تعالى فنهاه عن ذلك لإيهامه، ولا يلزم من صحة استعمال الله تعالى له في حق نبيه صلى الله عليه وسلم الذي برأه من كل نقص جوازه من البشر، وقيل‏:‏ إن النهي كان خاصاً في صدر الإسلام حيث دسائس اليهود كانت فاشية وهذا كما نهى عن قول‏:‏ ‏{‏راعنا‏}‏ إلى قول‏:‏ ‏{‏انظرنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏ انتبه أيها المخرج وعن الثاني بأنه ليس بمتفق عليه إذ قيل‏:‏ إنه بمعنى فاعل ولو سلم فقد خرج عن معناه الأصل، ولم يلاحظ فيه هذا إذ يطلقه عليه من لا يعرف ذلك، فصح جمعه باعتبار المعنى الغالب عليه فتدبر‏.‏

‏{‏ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ إشارة إلى الكفر والقتل الواقعين سبباً لما تقدم، وجازت الإشارة بالمفرد إلى متعدد للتأويل بالمذكور، ونحوه مما هو مفرد لفظاً متعدد معنى، وقد يجري مثل ذلك في الضمير حملاً عليه، والباء للسببية، وما بعدها سبب للسبب، والمعنى‏:‏ إن الذي حملهم على الكفر بآيات الله تعالى، وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم الحدود، والذنب يجر الذنب، وأكد الأول لأنه مظنة الاستبعاد بخلاف مطلق العصيان، وقيل‏:‏ الباء بمعنى مع؛ وقيل‏:‏ الإشارة بذلك إلى ما أشير إليه بالأول، وترك العاطف للدلالة على أن كل واحد منهما مستقل في استحقاق الضرب فكيف إذا اجتمعا‏.‏ وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذٍ لإيراد كلمة ذلك فائدة إذ الظاهر ‏{‏بِمَا عَصَواْ‏}‏ الخ ويفوت أيضاً ما يفوت، وحظ العارف من هذه الآيات الاعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان، وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا‏.‏

ومن باب الإشارة‏:‏ الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة، وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن ابتلعها، وسبب طلب ذلك الاحتجاب عن آيات الله تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب، وقطع وريدها بقطع واردها، والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب، والاعتياض بالأغيار عن ذلك المطلوب نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية‏.‏